أخبار العربية

الوباء الصامت والصمت القاتل !


تحدثت في مقال سابق عن الدراسة العلمية التي أعدها فريق علمي من جامعة الملك سعود عن التلوث البيئي في مدينة مهد الذهب بفعل المنجم التابع لشركة معادن وتطرقت للنتائج المُرعبة التي أشار لها رئيس الفريق العلمي الدكتور/عبدالله الفراج في تصريح صحفي نشر وقتها في صحيفة الرياض وطالبت في المقال بأهمية تحرك الجهات المعنية للوقوف على نتائج هذه الدراسة والإستفادة من معطياتها وتنفيذ التوصيات التي تمخضت عنها لمُعالجة الأخطاء الفادحة التي وقعت بحق سكان المدينة وإنهاء مُعاناتهم وحتى تكون المُعالجة شاملة وفاعلة أكدت على ضرورة قيام وزارة الصحة بإجراء مسح صحي شامل للسكان لمعرفة نوعية الأمراض المنتشرة ومدى علاقتها بالتلوث الحاصل وحتى الآن لم نسمع عن أي تحرك ملموس لهذه الجهات (إلا إذا كانت تعمل بالخفاء راجية الثواب من عند الله وحتى تنأى بنفسها عن الرياء ومواطن الشبهات) والتي كان الأجدر بها أن تتحرك قبل الإعلان عن نتائج الدراسة في وسائل الإعلام والذي جاء متأخراً حيث أن الفريق العلمي بادر أولاً بتزويد مختلف الجهات بنسخ كاملة من الدراسة كما أن أمارة المدينة مشكورةً تولت التنسيق ومخاطبة هذه الجهات وعندما نقول متأخراً فهذا بالفعل ما حدث نظراً لحرص الفريق العلمي على عدم الإقدام على أي خطوة من شأنها التأثير على تعامل الجهات المسؤولة مع نتائج الدراسة ولأنه لم يكن يهدف إلى الظهور الإعلامي وإنما كانت تُحرِكه بواعث وطنية ومهنية وإنسانية .
وإذا ألتمسنا العذر لهذه الجهات من حيث عدم إدراكها لخطورة الوضع والآثار السلبية لهذا المنجم قبل إعداد هذه الدراسة أو على سبيل الإفتراض عدم العلم بالدراسة ونتائجها فكيف لنا أن نقبل أي أعذار ومبررات حيال هذا الصمت القاتل والتجاهل المريب بعد مرور عدة سنوات على هذه الدراسة وبعد الإعلان عن نتائجها وبعد إستشعار آهالي المدينة للخطر الداهم وبعد أن أصبحت القضية قضية رأي عام فإذا كانت هذه الجهات ليست معنية بأي أضرار صحية أو بيئية أصبح حدوثها مؤكداً فعلى الأقل التحرك خوفاً من المحاسبة أو لحفظ ماء الوجه وحياءً من الناس إحتراماً للرأي العام الذي يشكل وسيلة ضغط في كل دول العالم وبسببه يستقيل أو يُقال وزراء ونحن هنا لا ندعوا إلى ذلك وهيهات أن نأمل بل نتعشم فقط بأن يشعر هؤلاء المعنيون بمُعاناة إخوانهم أبناء الوطن ويتحركوا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .
وإن كان هؤلاء ليسوا على ثقة بدراسة سعودية خالصة فقد توصلت شركة كندية فيما بعد إلى نتائج أكثر رُعباً لأنه تم إتاحة المجال لها للعمل بحرية من قبل الشركة المسؤولة عن المنجم وإذا سلمنا جدلاً أن هؤلاء أيضاً لا يؤمنون بالبحث العلمي وأهميته ومصداقيته فنحن نسألهم عن موقفهم من التقرير الصحفي الذي أعده مواطن شريف إسمه حسين الشريف والذي يحمل عنوان "الوباء الصامت" والمنشور في اليوتيوب على جزأين وتضمن إعادة عرض لنتائج الدراسة والربط بينها وبين الأمراض التي يعاني منها سكان مدينة مهد الذهب وعلى لسانهم أي أن التقرير قام بما لم تقم به وزارة الصحة ولكن بصورة إعلامية ونحن ما زلنا نتمنى على هذه الوزارة ما تمنيناه سابقاً من حيث إجراء المسح الصحي الشامل المشار له أعلاه ومعرفة تركيز المواد السامة في المرضى من أجل إتخاذ الإجراءات اللازمة والعاجلة لسلامتهم .
والسؤال المُحير الذي يطرح نفسه بإلحاح شديد وبمستوى بالغ الأهمية والحساسية ... لماذا لا تتحرك هذه الجهات وتقوم بواجبها ؟ وإن كانت قد فعلت بسرية تامة من منطلق العمل بصمت فلتُعلِن عن ذلك أو تُتحِفنا ببيان يُطمئِن الناس ويبدد مخاوفهم في حالة إنتفاء أي أخطار صحية وبيئية حالية أو مستقبلية مُحتملة .
ومع تقديرنا لجامعة الملك سعود وجهودها في دعم الدراسة والذي أشرنا له في المقال السابق إلا أنها مطالبة بإستمرار الدعم وتنفيذ الجانب  المتعلق بها من التوصيات والخاص بإجراء التحاليل المعملية للنظائر المشعة والعناصر الثقيلة المتطايرة في فضاء المدينة والموجودة في الغُبار الناتج عن الأعمال اليومية للمنجم فليس معقولاً أن تبادر الجامعة بداية في دعم الدراسة وبعد الوصول إلى النتائج التي أحدثت ردة فعل مُدوية في كافة الأوساط العلمية والشعبية وما حظيت به الدراسة من زخم إعلامي تستحقه وتحقيق جوائز دولية حصل عليها طلاب ثانوية مهد الذهب الذين شاركوا في مسابقة بحث علمي بإشراف الدكتور الفراج تتراجع الجامعة أو يفتر حماسها في الوقت الذي تدخل فيه عالم صناعة السيارات إلا إذا كان هذا العالم هو من أنهك ميزانيتها فلم تُعد قادرة على مواصلة الدعم أو أنه صرف نظرها عن هكذا نوعية من الأبحاث أي أن المسألة بكاملها إعادة ترتيب أولويات .
وبالتالي لا يمكن أن نوجه اللوم إلى الجهات الأخرى التي لم تتفاعل مع نتائج الدراسة كما يجب ولم تعمد إلى تنفيذ ما يخصها من توصيات ونغض الطرف عن الجهة (الجامعة) الأم لهذه الدراسة ثم أنها أيضاً مُلزمة أدبياً ووطنياً في حال إستمرار سياسة التجاهل وعدم التنفيذ بوضع نتائج الدراسة وتوصياتها في متناول القيادة السياسية التي لم ولن ترضى بأي حال من الأحوال عن أي تخاذل قد يُلِحق ضرراً بصحة المواطن وسلامته فخادم الحرمين الشريفين (حفظه الله) عَبر في أكثر من مناسبة عن إمتعاضه من قصور بعض الجهات الحكومية في تعاطيها مع شؤون المواطن كما أكد على عدم وجود أي مبرر أو عذر للمقصرين في إشارة من مقامه إلى توفر الميزانيات الكافية لخدمة المواطن وتحقيق رفاهيته كما نأمل من هذه الجامعة ونظيراتها إعداد أبحاث ودراسات مماثلة وتحديداً في المدن الصناعية وأن تعمل على بذل الكثير من الدعم لمثل هذه الأبحاث العلمية في كافة المجالات التي تعود على الوطن والمواطن بنتائج عملية وذات جدوى .
والحقيقة أنني أكتب هذا المقال على مضض كحالي في المقال الأول بحكم صلة القرابة التي تربطني برئيس الفريق العلمي ولكن ما يحدث من عدم تفاعل مع كل ما سبق من معطيات أمر غريب ومستنكر ويحتم على أي مواطن إبداء رأيه بوضوح وصراحة بصرف النظر عن أي إعتبارات أخرى أو تفسيرات قد يطلقها أصحاب الأفق الضيق أو الذين يبحثون عن أي مبرر للطعن في صدقية الدراسة ودقة نتائجها أو النيل من القائمين عليها .

صحيفة الرياض العدد (15479) الأربعاء 4 ذي الحجة 1431ه الموافق 10 نوفمبر 2010 م .