أخبار العربية

معالجة الأبدان أم المتاجرة بالقرآن !

من المسلمات في المجتمع السعودي بل والعربي بوجه عام أن في القرآن الكريم شفاء للأمراض لكن لا أحد يخبرنا بوضوح عن كيفية وماهية ذلك فهل هذا الشفاء للأمراض النفسية أم العضوية أو كليهما معاً ؟ وهل يشمل كافة الأمراض ؟ فإن كان الأمر كذلك فما حاجتنا للمستشفيات ومراكز الأبحاث الطبية وبالتأكيد سوف يقول الكثيرون أن ذلك ورد في محكم التنزيل ولا يمكن الجدال فيه فنجيب بأن لفظ الشفاء كما جاء في النص القرآني يشير إلى ذلك ولكن ليس بالضررورة أن يكون المعنى الذي فهمه الناس هو المقصود فمن المعلوم أن الإعجاز اللغوي والبلاغي والمجازي في القرآن يسمح بوجود تفسيرات مختلفة لماهية هذا الشفاء والذي قد يتمثل بالشفاء الروحي أو الشعور بالإرتياح والهدوء النفسي عند قراءة القرآن وتدبر معانيه وماورد فيه من قصص ومواعظ وقد يكون أيضاً بمعنى تحقيق مصالح الناس وصلاح حالهم وإنتظام معاملاتهم وشؤون حياتهم الدنيوية إذا التزموا بمضمونه ومحتوى التوجيهات الربانية فيه وربما يكون هذا الشفاء بمعناه الظاهر في جوانب محددة مثل ما أشارت إليه الآيات الخاصة بالرضاعة والفطام وتجنب مس النساء في أوقات الطمث والحيض وتحريم الفاحشة وشرب الخمر وأكل لحم الميتة ونحو ذلك مما أكتشف الطب الحديث حقيقة أثاره السلبية ومخاطره الصحية على الفرد والمجتمع أي أن الأمر ليس وفق المفهوم السائد في الوقت الراهن .
ما سبق لا يتعدى كونه وجهة نظر شخصية في ظل غياب رؤية واضحة وتفسير دقيق وهو محاولة لفهم المعنى الصحيح لآية الشفاء وحقيقة ما يجري على أرض الواقع من إعتقاد راسخ لدى شرائح واسعة في المجتمعات الإسلامية مفاده أن قراءة القرآن على المريض تجلب له الشفاء بالرغم أنه حتى الآن لم نرى نماذج أو شواهد فعلية تؤكد هذا الإعتقاد وما يشاع حول ذلك لا يتجاوز حالة الوهم التي يعيشها ويعشقها عوام الناس وإن وجدت أمثلة لبعض الحالات لا يعتد بها فهناك من يبادر بالتداوي لدى مشايخ القراءة ثم يتوجه للعلاج في المراكز الطبية المتخصصة وأحياناً العكس وعندما تتحسن حالته ينسب ذلك لقرآءة المشايخ إنطلاقاً من قناعته الذاتية وقد يُشفى المريض بدون أن يكون للطب أو القراءة أي دور في ذلك وهذا كله بفضل الخالق عز وجل فهو القادر على كل شيء سبحانه وتعالى .
والحقيقة أن الإشكالية لا تكمن في تفسير الآية وفقاً لظاهر النص أو أي تفسيرات أخرى ولكن أيضاً في مخالفة مدلول نص الآية من قبل مَن يرون ذلك وإلا كيف نفسر إقبالهم على أشخاص معينيين يدعون قدرتهم على معالجة المرضى ابتداءً بالصداع وانتهاءً بالإيدز؟ (حمانا الله وإياكم) وبإمكانهم قرآءة القرآن على أنفسهم ومن لا يستطيع فليفعل ذلك ذووه وإن كان الأمر شاقاً عليهم فليحضروا أشرطة كاسيت لأفضل المُقرئين قراءةً وشهرةً ويستمعون لها وخاصة أننا كمسلمين نعتقد بأهمية أن تكون قراءة القرآن بإخلاص وبنية صادقة لكي تؤتي ثمارها والسؤال كيف يتأتى هذا بعد أن تحول الإيمان بالقرآن كمعجزة إلى وسيلة للمتاجرة واستغلال مشاعر الناس بل وسذاجتهم ؟ فعيادات ما يسمى " المعالجة بالقرآن" أصبحت في كل مكان وهمها الأول استنزاف الجيوب بصورة غير مقبولة على الإطلاق ومن العار التزام الصمت حيالها فكل شيء في هذه العيادات بأضعاف سعره في الخارج والقارئ يحصل على مبالغ طائلة في مقابل قراءته على المريض ومن لا يأخذ شيئاً على قراءته ليظهر أمام الناس بأنه يقرأ لوجه الله (نتمنى ذلك) وهو في الحقيقة يبحث عن التسويق لنفسه من خلال الدعاية الشعبية التي يحتاجها فإنه يعوض ذلك من خلال بيع علب زيت الزيتون والماء والأعشاب بأنواعها بل وحتى الكريمات ومرطبات البشرة بأسعار مبالغ فيها بحجة أنها خضعت لقراءة فضيلته والغريب أن بعض هذه الأنواع يباع كمجموعة واحدة لم يفتح بعد غلافها ولكن هي أيضاً تمت القراءة عليها ولست أعلم ما هو الرابط بين المعالجة بالقرآن وهذه المواد .
وهذا لا يعني عدم وجود من يقرأ بدون أي مقابل وبلا أي دعاية وهؤلاء نحسن الظن بهم ولكنهم في كل الأحوال قلة كما أنهم ليسوا موجودين دائماً وأياً كانت النوايا والأهداف فإن كان الشفاء بفعل قراءة هؤلاء وهؤلاء فمن المناسب التوجه بهم مجتمعين إلى خزانات المياه في المدن ليقرأوا وينفثوا كما يحلوا لهم حتى تكون الفائدة أعم وأشمل وبأقل الجهد والتكاليف .
والسؤال الأهم هل كانت المعالجة بالقرآن شائعة على هذا النحو في عصور الإسلام السابقة ؟ فإن كانت الإجابة بالنفي كما تنبئني بذلك معلوماتي المتواضعة فلماذا لم يتم اعتبار مثل هذه الممارسة بدعة ؟ وأعني بذلك مزاولة القراءة كمهنة كحال الكثير من الأمور التي طرأت على مجتمعنا السعودي فتم التصدي لها وتحريمها بدون أي مبرر شرعي مقبول أو أن الأمر يصبح مختلفاً عندما يكون مصدر هذه البدعة أشخاص يتلبسون بلباس الدين ليخلطوا الحق بالباطل وخاصة عندما يصاحب ذلك منفعة شخصية مادية واجتماعية .
أعتقد أنه لم يعد من اللائق استمرار مثل هذا الغش والخداع وأنه أصبح لزاماً على الجهات المعنية التوقف عن إتباع سياسة حسن النية والعمل بحزم على تجريم مثل هذه الممارسات التي تقع في دائرة النصب والاحتيال بل وأسوء من ذلك بكثير فهي تسيء إلى أعظم دين عرفته البشرية من حيث تشويهها لصورته الرائعة وتظهر أتباعه وكأنهم مجموعة من السذج أو المحتالين وحتى لا يتهمنا البعض ممن دأبوا على اتهام الآخرين بما ليس فيهم والذين لا يفقهون من أمرهم شيئاً فكيف بالأمور الدينية أننا بذلك ننكر معلوماً من الدين بالضرورة ونهدف إلى الطعن في حقيقة الرقية الشرعية فإنه لابد من التأكيد على أن المسألة ليست كذلك سواءً كانت الرقية من المعلوم من الدين بالضرورة أو لا وأن واقع الحال والتناقضات التي يتم التعامل بها مع الآية القرآنية والرقية والنتائج المترتبة على ذلك هو الدافع الرئيسي الذي دعانا للكتابة بهذا الشأن وبناءً عليه فإن المطلوب إعلان موقف واضح مما هو حاصل الآن وتوعية الناس بالمدلول الحقيقي للآية والرقية الشرعية الصحيحة وإن كان لا بد من إستمرار وجود هذه العيادات إلى حين لتفادي التصادم مع قناعات الناس وسوء ظنهم فمن الضروري التعجيل بإعداد لائحة تتضمن ضوابط محددة لمزاولة الرقية يأتي في مقدمتها إيقاف المتاجرة بكلام الله ومنع الإنفراد بالنساء والضرب للمرضى تحت أي مبرر (سبق أن حدثت حالات وفاة وتحرش نتيجة لذلك) إضافة إلى المراقبة الصحية للمواد التي يتم بيعها كعلاج للتأكد من عدم تسببها بأي ضرر للصحة وتغليظ العقوبات المترتبة على مخالفة بنود هذه اللائحة وأن تكون عملية مزاولة المهنة وفق تصريح صادر عن الجهة ذات العلاقة بحيث يمنح هذا التصريح للرقاة في إطار شروط محددة ومن لا تنطبق عليه هذه الشروط لا يحصل على التصريح اللازم ويمنع من مزاولة هذه المهنة المربحة حتى في حالة البيع تبعاً لأسعار السوق .